والمقصود أن هذا الأمر ثابت بالكتاب والسنة، وليست المسألة التي نحن بصددها في إثباته، وإنما في كونه مانعاً من موانع إنفاذ الوعيد، فبعض العلماء لم يذكر عذاب القبر من جملة موانع الوعيد أصلاً؛ لأنه هو بنفسه وعيد، فمن عذب به فقد لحقه الوعيد، فكيف يعد عذاب القبر من جملة موانع إنفاذ الوعيد؟ وبعض العلماء يقصدون بمانع الوعيد ما هو أعم، أي: مانع الوعيد الأخروي، وهو دخول النار، ولو تأملنا كلام المصنف هنا فسنجد أنه يخص ذلك بدخول جهنم، حيث قال قبل ذكر الموانع:
[وأيضاً فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره؛ فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب] فخص العقوبة بجهنم، فكلامه عن عقوبة جهنم، ولذا جاز له أن يدخل ما يراه مانعاً دون جهنم، ولذلك ذكر أيضاً مسألة اقتصاص المؤمنين بعضهم من بعض على القنطرة؛ لأنه قبل دخول الجنة، أي: قبل أن يقع العذاب لمن توعد به.وبعض العلماء لا يرى ذلك؛ لأن موانع إنفاذ الوعيد معناها أن الإنسان يتطهر بها، فتكون سبباً للتكفير ومانعاً من نفاذ الوعيد قبل أن يلقى الله عز وجل، فعلى هذا يكون آخر ما ينال الإنسان من أسباب التكفير وموانع إنفاذ الوعيد هو ما يعاني من شدة الموت وهذا الذي دل عليه قول أم المؤمنين رضي الله عنها: [
فلا أكره لأحد شدة الموت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، فآخر ما يجد المؤمن من الآلام مما يكفر الله تعالى به عنه هو ما يعاني من سكرات الموت، وبعد ذلك يكون الإنسان قد انتقل إلى الدار الآخرة، فليس بعد هذا من حديث عن موانع الوعيد بالنسبة له، أما ما يأتي من غيره فهذا شيء آخر، أي: ما يأتي من الله عز وجل من العفو، وكذلك ما يناله من إخوانه المؤمنين، كأن يصلوا عليه ويستغفروا له ويدعوا له ويتصدقوا عنه، فهذا من غيره، أما هو فآخر ما يؤلمه ويصيبه ويكفر به عنه هو سكرات الموت، وما يناله بعد ذلك في القبر هو من الوعيد ومن العقوبة، وليس من التكفير.والذي يظهر أن ما ذكره الشارح رحمه الله تعالى متوجه، وذلك بأن يقال: إن نوعاً من المؤمنين لم تكفهم مكفرات ومطهرات المصائب في الدنيا لتكفر عنهم بحكمة من الله سبحانه وتعالى، أو لكثرة ما ارتكبوا من الكبائر، أو لتأجيل الله عز وجل العذاب عنهم إلى عذاب القبر، فلم يصبهم من اللأواء والمرض والمصائب والبلايا ما يكفر عنهم به، ولم يتوبوا أيضاً مما هم عليه من الذنوب، أو ليسوا ممن كبرت كبائره وعظمت ذنوبه بحيث يستحق أن يعذب في القبر وأن يعذب في المحشر وفي النار، والله تبارك وتعالى هو الحكم العدل الذي لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى: (
يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، بل كتب على نفسه الرحمة كما ذكر عز وجل، فهذا يقتضي أن الله سبحانه وتعالى يطهر بعذاب القبر من كان هذا حاله، ثم إذا كان الحشر والبعث يبعثون وقد تطهروا، فمن قارف الذنوب والمعاصي إلى أن جاءه الموت واشتدت عليه آلامه وسكراته فطهره الله تعالى به ثم قبضه وقد كفر عنه خطاياه وذنوبه لم يعذب بعد ذلك في قبره.فهذه حالة متصورة بالنسبة إلى حكمة الله وإلى عدل الله سبحانه وتعالى، وإلى أحوال الناس ودرجاتهم ومراتبهم في ارتكاب الكبائر.غير أنا لم نجد في حدود ما اطلعنا عليه أن للعلماء رحمهم الله تعالى دليلاً نصياً على أن أحداً عذب في قبره فكفر الله تعالى عنه به ثم لم يدخل النار اكتفاءً بعذاب القبر، أقول: هذا ما لم أجده من خلال بحثي، وإنما هو الاستدلال بطريق الأولى، فمن عثر على شيء من هذا فجزاه الله خيراً، ويكون بهذا قد أيد ما يذهب إليه الشارح وأمثاله.وأما كثير من الباحثين والمتأملين في المسألة فإنهم لا يعدون هذا مانعاً، بل يتكلمون عن موانع الوعيد من غير أن يذكروا عذاب القبر.